الأحد، 18 مايو 2008

اربعون عاما على ثورة الطلاب فماذا تبقى ؟ - البي بي سي انور حامد

1968 كانت سنة الولادة، ولكن الثورة كانت تنمو في رحم المجتمعات الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

كل ذلك الدمار والموت الذي خلفته الحرب، وانقسام أوروبا الى معسكرين متضادين، والحرب الباردة التي نجمت عن ذلك دفعت الشبان تحديدا الى طرح العديد من الأسئلة، لعل أهمها: "هل ما زال سدنة النظام صالحين ؟ ألم يقدموا ما يكفي من الأدلة بأنهم لا يسيرون بنا في الإتجاه الصحيح ؟"

الشبان كانوا هم الطليعة المتمردة، لأن جيل الآباء كان متعبا، بل مستنزفا.

أولى بوادر الثورة بدأت في الأدب والفن، وكان روادها شبانا أيضا.

عام 1957 كتب جون أوزبورن مسرحيته "Look back in anger" (أنظر وراءك في غضب)، وهو عنوان كاف للتعبير عن الروح التي كتبت بها المسرحية. ثم تشكلت في بريطانيا حركة أدبية أطلق أعضاؤها على أنفسهم إسم "Angry young men" أو "الشباب الغاضب"، ثم جاء التمرد على الأشكال السائدة في المسرح والشعر والموسيقى في أوروبا والولايات المتحدة.

وأخيرا بدأت تتشكل الأيديولوجيا، في أوساط الشبان أيضا، ، والعنوان: ثورة على أركان النظام القائم، الأخلاقية والسياسية، واختراق لكافة الممنوعات.

طالت علامات الإستفهام ليس فقط النظام الغربي بأيديولوجيته الرأسمالية التي "أثبتت عقمها" بل لم يسلم النظام الستاليني من الرجم، وبدأ الثوار الجدد بالتشكيك في أسس النظرية الماركسية التي تنبأت بقيام ثورة بروليتارية وانهيار النظام الرأسمالي، وهو ما لم يحدث رغم مرور قرن على نشوء طبقة عمالية قوية في أوروبا.

اذن، فقد الشبان إيمانهم بالقائم، ولم يبد البديل مقنعا، فما العمل ؟

حاول فلاسفة جدد مثل الألماني هربرت ماركوز الذي أصبح الأب الروحي للحركات الطلابية الإجابة على الأسئلة، واستخلص أن البروليتاريا لم تعد هي المخلص، وأن النظام استطاع "شراء" الطبقة العاملة من خلال خلق احتياجات وهمية (الإستهلاك) ومحاولة إشباعها".

إذن انتقل دور قيادة الثورة من "العمال" الى الطلاب والقوى الهامشية في المجتمع، والتي لم يستطع النظام بعد إجبارها على الإنخراط باللعبة والانصياع لقوانينها.

هذا ما يفسر الطابع الفوضوي للحركات الطلابية، البعيد عن الإنضباط الذي يميز الأيدلولوجيا الماركسية التقليدية: تبنت الثورة الجديدة هدم أركان النظام القائم كهدف، بهيكليته السياسية ومحظوراته الأخلاقية ومؤسساته الإجتماعية وقوانينه بشكل عام.

عانقت الثورة الجديدة الحرية الجنسية خارج إطار المؤسسة الإجتماعية "الزواج، العائلة"، وساعد انتشار ثقافة منع الحمل على تجنب تبعات تلك الحرية.

أدار الشبان الغاضبون ظهورهم للمؤسسة الدينية أيضا، ولمعتقداتها، وبدوأ بالبحث عن السعادة على الأرض عوضا عن السماء، يساعدهم على ذلك تحررهم الجنسي، وما تيسر من الحشيش والماريجوانا التي وجدت طريقها إلى الأيديولوجيا التي تبنوها والقائمة على الانعتاق من كل المحظورات الأخلاقية السائدة .

.....انقشعت كسحابة صيف

كانت فرنسا مسرحا لأكثر الحركات تنظيما، وإن كانت روح الثورة وجدت طريقها الى الجامعات الأمريكية (وكانت معارضة حرب فيتنام هي وقودها)، وأوروبا الشرقية (حيث التململ السياسي على النظام الستاليني الذي أتي مؤخرا بربيع براغ بعد فشل خريف بودابست قبل ذلك بأكثر من عقد من الزمان)، بل وصلت الى الجامعات العربية (حيث روح المقاومة التي أعقبت هزيمة حرب عام 1967 كانت تربة خصبة للأفكار الراديكالية).

في فرنسا بدأت الأحداث بسلسلة من الإضرابات في الجامعات والمدارس الثانوية، التي حاولت حكومة ديغول قمعها بوليسيا، مما أدلى الى اندلاع معارك شوارع في الحي اللاتيني (الحي الطلابي في باريس).

تبع ذلك اضراب عام للطلاب ما لبث العمال أن انضموا اليه ليبلغ عدد المضربين خلال فترة وجيزة العشرة ملايين، أي ثلثي القوة العاملة الفرنسية.

وصلت الحكومة الفرنسية حافة الإنهيار، ولكن الوضع الذي بلغ ذروته بسرعة هائلة، فقد زخمه بنفس السرعة.

عاد العمال الى مصانعهم ، وحين أجريت انتخابات جديدة في شهر يونيو/حزيران، خرج الديغوليون منها بأقوى من ذي قبل.

في الولايات المتحدة لم تستطع التحركات الطلابية إجبار الحكومة على إنهاء حرب فيتنام، وفي أوروبا الشرقية فشلت الحركة التي طالبت بإصلاح النظام الإشتراكي في براغ بعد أن تدفقت دبابات حلف وارسو الى تلك المدينة الجميلة، وقضت على كل أمل في جسر الهوة بين المبادئ المعلنة للإشتراكية والتي لم تكن بعيدة عن ما نادى به الإصلاحيون، والتنفيذ على أرض الواقع، حيث كما يقول الإصلاحيون، لم تقل درجة اغتراب الإنسان في المجتمع الإشتراكي عن النظام منه عن النظام الرأسمالي في المجتمعات الغربية.

أما في العالم العربي فلم يبلغ الحماس لمبادئ الثورة الطلابية مستوى الحركة، بل تبنته بعض التيارات الراديكالية النخبوية في جامعات نخبوية كالجامعة الأمريكية في بيروت، وبعض المثقفين والمفكرين اليساريين، ولذلك لا يمكن الحديث عن أثر ملموس لصعود وهبوط الحركة على الساحة العربية.

ماذا تبقى ؟

بعد مرور أربعين عاما على الثورة الطلابية، ماذا تبقى من مبادئها، وكيف انتهى نشطاؤها ؟

أما بالنسبة للمبادئ فقد قلب انهيار النظام الإشتراكي عام 1990الكثير من الموازين، وأدى الى انحسار اليسار العالمي حتى بمفهومه الأقل راديكالية، وسارت المجتمعات باتجاه الإستهلاك (إحدى سمات المجتمع الرأسمالي التي كانت هدفا للثورة)، ولم يعد التغيير وقضايا العالم التي تتجاوز المحيط الشخصي والعائلي المباشر من أهم اهتمامات الشبان والطلاب الجامعيين.

أما بالنسبة لنشطاء الحركات الطلابية ومعتنقي أفكارها (حتى ولو لم يكونوا طلابا وقتها) فقد ساروا في ثلاثة اتجاهات مختلفة: منهم من اختار العودة إلى أحضان النظام مثل المفكر الفرنسي والثائر (السابق) ريجيس دوبريه الذي عاد من أدغال أمريكا اللاتينية الى باريس ليعمل مستشارا للرئيس فرانسوا ميتران، ودانييل كوهن بنديت (داني الأحمر) الذي كان من زعماء ثورة باريس، ليصبح اقتصاديا (رأسماليا) مرموقا، وليصل الى البرلمالن الأوروبي.

أما يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا السابق فلا دليل على أنه شارك في الثورة الطلابية، وإن كانت أفكاره الراديكالية السابقة لم تكن بعيدة عن روح أفكار ثورة الطلاب.

هناك أيضا من بقوا على إيمانهم بروح تلك الأفكار التي اعتنقوها يوما مثل المفكر البريطاني طارق علي والممثلة، البريطانية أيضا، فانيسا ريدجريف التي لا تزال تمارس نشاطها السياسي بروح الأفكار التي اعتنقتها في نهاية الستينات.

الهامشيون

الجزء الأكبر من نشطاء ثورة الطلاب الذين أصيبوا بالإحباط وجدوا أنفسهم أمام خيارات صعبة، فهزيمتهم لم تعد لهم الإنتماء الى النظام بأخلاقياته ومؤسساته، فاختاروا الحياة على هامشه: رفضوا الانصياع الى قوانينه والتحول الى أدوات منتجة تساهم في تدعيمه، فتحولوا الى "سكان أرصفة".

قبل ثلاثة أعوام تقريبا التقيت أحدهم بالصدفة: كان يفترش الأرض أمام مخزن هارودز.

نعم اختار هذا المكان بالتحديد، الذي يرتاده أغنياء المدينة.

هل يقصد التحدي ؟ والا لماذا يجلس هنا بثيابه الرثة وشعره الدبق وسط هذه الجموع من "زبدة القوم" بأناقتهم وعطورهم ؟

فوق ذلك، لم يستجد أحدا ولم يستدر عطف أحد.

مارك كان مثالا لأولئك الذين تراهم يفترشون الرصيف وسط آخرين، ولكن نظرة مدققة في ملامح وجوههم أو لامبالاتهم تقنعك بأنك أمام شخص، ر بما خسر معركة، ولكنه لم يتخل أبدا عن كبريائه، ولا سلم تماما بالهزيمة.

ليست هناك تعليقات:

WebCrawler Search