الثلاثاء، 8 يوليو 2008

يوم غير عادي جدا


قصة قصيرة من تاليف ازهر مهدي

انه يوم غير عادي فعلا فرغم اني عالق وسط هذا الزحام المرعب والسيارات لا تسير بالكاد الا بضعة اقدام كل عشر دقائق واوشك المساء على الحلول ولم اصل الى مقصدي ،لكني اشعر بسعادة ونشاط غامرين لم اشعر بهما منذ آماد كأنها قرون ،لا اعرف ما السبب هل هي الحفلة الصاخبة التي قضيتها ليلة امس فعاقرت فيها كل اصناف الخمور ام هي الفتاة التي منحتني في الفراش بعدها اجمل مالديها ام هي الادوية المهدئة التي اخذت تؤتي ثمارها اخيرا بعد ان جعلتني فيها كالمخدّر لسنوات ،ام عودة والدتي الى ارض الوطن بعد ان قضت معي ما يقارب نصف العام لم تنفك فيها تنغص علي حياتي وتقيد فيها تحركاتي فكنت مجبرا على الاصغاء اليها واتباع وصاياها الألف اوربما هي الاغاني الخفيفة التي استمع لها لتلهيني عما حولي؟

لا اعلم لكني استسلمت لهذا الشعور اللذيذ والنادر في هذه الحياة وخصوصا حياتي انا و الذي حول تلك اللحظات الى عالم رقيق وجميل مليء بالالوان الزاهية تغمرني فيه الاصوات والموسيقى والمرح والاحاسيس اللطيفة انها من الاوقات التي تشعر الانسان انه يستحق المجيء الى هذا الدنيا والاستمتاع بكل المحرمات والمحللات ايضا وتنعدم فيها الفروقات بين الصح والخطأ.

توقفت عن التأمل في هذه الفترة المهم اني سعيد بل وسعيد جدا ولن اسأل عن السبب .

لكنه الزحام فقط الذي يزعجني الآن ، وان الشعور بالتأخير لا يقلقني فحسب بل التفكير بأن المكان الذي قد اقصده ربما يغادر الى مكان اكثر ازدحاما نعم شعرت ان الاماكن قد تتحرك في تلك الوهلة بسبب معاناتها من الملل و الانتظار كلنا كنا ننظر الى الامام آملين ان نخطو خطوة ولو واحدة لكن من دون ان يتحقق هذا الحلم الا بشق الانفس للاسف.

الحسن في الموضوع ان البعض يستغلون الانتظار في عمل اشياء جيدة فهذا الآسيوي الذي يقود سيارته الفارهة المحاذية لي قد حول سيارته الى مكتب عمل لا يحتاج فيه الا الى هاتفه الخلوي ربما ليجني الملايين .

- قل له ان يودع المبلغ في الحساب البنكي والا سأقدم الشيك الى الشرطة خلال يومين

ثم يتوقف ليستمع الى المتحدث في الطرف الاخر ويجيب بلهجهته الانجليزية المتبلة بالبهار والحارقة كلفلفل:-

-لا يهمني ، ان شركتي ليست مؤسسة خيرية فلو اراد كل عميل ان يدفع على مزاجه لاكلتني الكلاب وخسرت مصالحي ولكان خير لي ان ارجع الى هناك.

كان يتحدث بأسهاب وغضب عارم بأسلوب روتيني معهود من رجال الاعمال غير عابيء بالسامعين حوله لكني في عين الوقت وجدت ان كلامه منطقي رغم عدم انسانيته في نظر البعض ففي هذه المدينة لا يمكنك ان تتهرب من الدفع كما لا يمكنك السماح للآخرين ان يتهربوا من الدفع ايضا وقد اراحنا من صراخه اخيرا عندما اغلق زجاج نافذته وتركني استمع الى المذياع.

وتلك السيدة العربية مع اولادها على الطرف الاخر قد احضرت معها المطبخ والكتب على ما يبدو فهي لا تنفك تخرج الطعام وتحشوه في فم ابنها الصغير وتطالع في الكتاب لتذاكر لابنها الاخر وما بين الاثنين لم تنس ان تحتضن ابنتها المذهولة بالاضواء حولها كأنها تعزيها عما سيصيبها في المستقبل من تعب وعناء المسؤولية كأي امرأة عربية أخرى كتب عليها الشقاء.

- سيدي العزيز أأنت مسلم ام مسيحي ام هندوسي ؟

قالها البائع الآسيوي المتجول متحدثا اليّ بعربية على الطريقة البوليوودية وهو يريد بيعي مالديه من رموز دينية ، لم اجبه بسبب دهشتي واكتفيت بالتطلع اليه مستغربا اذ ظهر من اللامكان واستغل فتحة النافذة الامامية الصغيرة التي فتحتها ليخرج منها دخان سيجارتي ليحشر فمه وانفه فيها بالمقلوب وقد خشيت عليه لوهلة من الاختناق بالدخان الذي كنت انفثه نفثا، خصوصا ومنظر عينيه المراقبتان للوضع من حوله تخوفا من حضور شرطي قد يصادر ما لديه ويرسله بعيدا الى بلاده زادني رعبا ، كان يبدوا عليه القلق وتخالط محياه الذلة والمسكنة رغم بريق الذكاء المتوقد الذي يشع من عينيه المبيضتين مما خفف وطأة الكلحة المرتسمة على وجهه بسب حرقة الشمس او لعنة الوراثة ربما، لم احر جوابا حينها لكنه عرف استغرابي من السؤال والبضاعة فلم يتركني اغلق النافذة فبادرني قائلا بعدما تشبث بيديه واصر على ادخال ما يستطيع من وجهه :-

ان عندي ايات قرآنية و ايقونات للعذراء وصلبان فضية وصور للالهة اني ابيعها باسعار جيدة ومناسبة ساعدني سيدي فأني من دون عمل وتأشيرتي ستنتهي قريبا ، انت مسلم ، اليس كذلك ؟ان لدي كل ما تريد ؟؟؟!!!.

يبدو ان التجارة هذه الايام هي خير ما يوحد الاديان والطوائف فهؤلاء المساكين يتاجرون بالدين باسلوب واقتصادي وبنّاء فعلا خلافا لغيرهم من المتاجرين بارواح وعقائد بني البشر من دون وجه حق ، انها حقا المدينة التي تستطيع فيها بيع كل شيء من دون الاحساس بالتناقض، فأردفت قائلا :-

- هل عندك اية ادعية ؟ سألته على عجل وتوجس

- نعم سيدى انظر ، فعرض علي مجموع من الادعية والصلوات بلغات شتى

-اعطني هذا الدعاء كم ثمنه ؟

-عشرة دراهم سيدي وان شاء الله ستمنحك السماء بركتها ، انه دعاء مجرب وتأكد انك ستشكرني لاحقا

- شكرا لك من الان ، لكن يجب ان اغلق النافذة الان.

اعطيته الدراهم واخذت الدعاء متيمنا و متمنيا ان يمحو اثره خطاياي بالامس وقبل الامس و الايام القادمة ايضا.

حاولت تعليق الدعاء على المرآة الامامية لكنه الخيط الذي سبب لي الازعاج ،كان قصيرا جدا فأخذ مني وقتا لكني تمكنت في النهاية من انهاء مهمتي والآن اصبحت سيارتي اكثر قدسية من ذي قبل ، اذ ان منظره ومضمونه يضفيان الروعة الى فضاء السيارة فلم اتوقف عن النظر اليه فرحا مسرورا.

لكن هذه المرة جذب انتباهي منظر آخر ،حدقت جيدا في المرآة وانا اشاهد السيارة خلفي ،كان النور الداخلي فيها مضاءا وبدا السائق منزعجا ومتوترا كمن يبحث عن شيء ما والسيدة بجنانبه مرتعبة ومتوترة هي الاخرى.

- الحمد لله لقد بدأت السيارات تتحرك قليلا يبدو انهم قد فعلوا شيئا لانقاذنا اخيرا ، هذا ما قلته لنفسي في حينها لكن سرعان ما عاد الازدحام الى حاله و نسيت السعادة التي انتابتني قبل ساعة من دخولي الى فم التنين .

لم اتوقف عن النظر الى ما خلفي وشيئا فشيئا بدأ الموضوع يأخذ منحى جديدا ، فهي تبكي نعم تبكي والرجل يصرخ بشدة وهو ما بدا واضحا على ملامح وجهه.

اشحت بناظري عن المرآة متذكرا نصيحة الطبيب بعدم التعرض الى اي موقف قد يستفزني ويسسب لي التوتر لكني نسيت الطبيب ووصاياه وانا انظر الى المرآة وقلبي يتمزق لمنظر المرأة المفجوعة وهي لا تملك حيلة ولا تعلم ماذا تفعل لقد كان يصرخ بشدة ووجهه الثلاثيني ذو الشاربين المنسدلين على فكه مع حاجبين منطويين كحاجبي التنين ذكرني بأفلام الرعب المبتذلة التي سادت في عقد الثمانينات ،كاد ان ينفجر غضبا وخيل لي اني اسمع صراخه في تلك اللحظة و استمرت هي بالبكاء وانكبت على طفلها في حضنها تريد حمايته، فكرت انها ستأخذ زمام المبادرة وتخرج من السيارة ، فلا شيء يجبرها على تحمل هذه الاهانة والذل ، لكنها لم تفعل، واستمر هو يصرخ بوجهها حتى فاجئها بلطمة على وجهها فتوقفت عن البكاء وانتفخت عيناها فتيقنت انها قد توقفت عن التنفس ،حينها لم اتمالك نفسي وترجلت من سيارتي متوجها اليه بما استطعت من قوة .

- ماذا تفعل ايها المعتوه ؟ اخرج من السيارة وواجهني انا .

- نعم ؟! من انت ؟! وما دخلك انت ؟ اذهب لحالك .

ماذا تريدين سيدتي ؟ هل آذاك ؟ هل اطلب الشرطة ؟ توجهت بالخطاب الى السيدة لكنها لم تحر جوابا وعيناها فاضتا دموعا وتسمرت هي في مكانها كتمثال جليدي

كررت السؤال على عجل وانا متوجس من ردة فعله ومن نظرات المحيطين الذين اخذوا يتجمهرون حولنا بسرعة كالمتفرجين الباحثين عن اي حدث يخرجهم من الملل.

لكنها لم تحر جوابا هذه المرة ايضا لكنها نظرت اليه بأرتخاء وفشعرت براحة لانها على قيد الحياة او على الاقل ليست في حالة هستيريا او فقدان وعي .

اغلق الرجل النافذة بعد ان همهم ودمدم ببضعة كلمات لم افهمها واخذت السيارات تطلق ابواقها لتطلب من التحرك و لتحذرني كذلك من التدخل في شؤون الغير وها هو السير قد بدأ يتحرك قليلا ولا احد يريد الانتظار او التدخل في ما لا يعنيه ، الم يقولوا لنا في المدرسة تلك العبارة الشهيرة ( من تدخل في ما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه ) والمسألة بين رجل وامرأته فما دخلي انا ؟

عدت الى سيارتي خائبا منكسرا وجلست على مقعدي محاولا استعادة ما تبعثر من اعصابي وراحة بالي.

- اللعنة لقد اخبرني الطبيب الا اوتر نفسي سأظل اياما اعاني من الشد والضغط من دون فائدة او سبب فما الذي حصلت عليه من تدخلي هذا ؟؟؟؟!!!!!

لكن نظرة اخرى الى النافذة جعلتني اكثر حدة ، فقد استمر بالصراخ والتلويح بيده مهددا لها بقبضته وهي تحتضن طفلها بقوة كأنها تسترحمه لاجل هذا الطفل لكن من دون نتيجة، وخيل لي انه كان يفعل ذلك وهو متأكد اني اشاهده من مرآتي فهو لم يطفيء النور الداخلي بل ظل سادرا في غيه وشعرت انه ينظر الي يتحداني كي افعل شيء له.

عندها ترجلت من السيارة مرة اخرى فقد اصبح الامر الآن يعنيني بالفعل وكان مستعدا لي هذه المرة اذ نزل من السيارة هو الاخر واوشكنا على الدخول في اشتباك لكن الشرطي الذي يراقب الازدحام تدخل سريعا مطلقا صفير الانذار واقترب مني قائلا ؟

- هل هناك مشكلة ؟

ان هذا الشخص ما برح يؤذي السيدة التي معه – اجبته بسرعة وحدة.

- هل ان كلام السيد صحيح يا سيدتي – توجه اليها الشرطي بسؤاله – يبدو انك في حالة سيئة هل تريدين التقدم بشكوى ما ؟

- لا يا سيدي – اجابته بصوتها المختنق – شكرا له ولك لكني مريضة فقط ولا أعاني من خطب ما ، نظرت لي كأنها تطلب الاعتذار لانها وضعتني في هذا الموقف المحرج.

- هل انت متأكدة سيدتي ؟ بأمكانك التقدم بشكوى الان لو اردت سيدتي – اجابها الشرطي.

- كلا سيدي شكرا لكما ثانية لكني مريضة فقط والازدحام بدأ يؤثر بي فعلا ، اتمنى ان نصل قريبا ، اجابته السيدة هذه المرة من دون ان تنظر الينا وانكفأت على طفلها الذي بين ذراعيها ونظرة الرعب بادية على محياها.

هل يمكننا ان نكمل طريقنا سيدي ؟ سأله الرجل بتهذيب هذه المرة.-

نعم تفضل وامضي في طريقك ؟ سينتهي الازدحام لقد ازيلت الموانع بسبب الحادث ، اجابه الشرطي الذي توجه الي بالخطاب بعدها قائلا وانت ايضا سيدي لا يمكننا فعل شيء يبدو ان المسألة هي مسألة عائلية تحدث كل يوم.

عدت اثرها الى سيارتي هذه المرة محاولا اقناع نفسي اني فعلت ما كان ميسورا لي ، وتوقفت هذه المرة عن التطلع الى المرآة الامامية و انطلقت بسيارتي عندما انتهى الزحام

حاولت نسيان الموقف بأحراجه وفشلي في تحقيق شيء ، شعرت اني انا من تعرض للخذلان ، فقد خذلتني الضحية بأنكارها لما وقع وخذلني المجتمع عندما ظل متفرجا وخذلني القانون الذي لم يتخذ موقفا تجاه ما حصل.

وصلت الى وجهتي والحمد لله فلا تزال الاماكن كحالها ولم تغادر بسبب الازدحام والانتظار، جلست في المقهى بأنتظار أن يأتي صديقي وشريكي في العمل الذي ينعى علي دوما التأخير في الوصول وعدت الى بيتي وواصلت حياتي المعهودة بعد ان هدأت قليلا، لكني بعد مدة اكتشفت ان شيئا جديدا طرأ علي فما ان يحدث موقف او تنشب ازمة لا اكون ذلك الانسان المهتم او الغيور على الحق كسابق عهدي فلا يسعني الاكتراث والاهتمام بما يدور حولي ويبدو اني قد اصبحت مثل الاخرين مجرد انسان عادي جدا.

WebCrawler Search