الثلاثاء، 24 يونيو 2008

الى معلمتي مع التحية

قصة قصيرة من تأليف أزهر مهدي

انه اليوم الاول في هذه المدرسة التي ارسلني اليها والدي من دون ان يسألني ان كنت راغبا بالذهاب اليها ام لا، لا لشيء الا ليفخر امام الجميع بأن ابنه يدرس في واحدة من اكثر مدراس البلاد تعقيدا وتشددا في التعليم، ولأن الجميع في هذه المدرسة ينتمون للطبقة المتوسطة او الثرية، كان شعوري بانني دخيل وغريب على هذا الوسط المتميز فلم استطع مجاراة اقراني وزملائي في ما يلبسون او يشترون او يتحدثون، الخلاصة اني قبلت فيها عقب انهائي للابتدائية و بعد ان توسط والدي لدى الكثيرين من الموظفين البيروقراطيين في الوزارة ليتم قبولي فيها وذلك لاسباب ليس آخرها ضعف معدلي مقارنة بالباقين رغم حصولي على درجة تفوق التسعين بالمائة من احدى مدارس الناحية الجنوبية المقرفة لكن التحدي حينها كان مضاعفا بالنسبة فجميع الموجودين هم من ابناء المتمكنين ماديا والمتفوقين دراسيا في نفس الوقت وهي حالة استثنائية و نادرة بالفعل.

المدرسات بدين حينها اقرب الى العربات المصفحة منهن الى مربيات الاجيال ، فلكل واحدة منهن قصص كثيرة يرويها لنا طلبة المراحل المتقدمة وهي قصص كفيلة بان تثير الرعب والهلع في قلوب الابطال الاشداء فكيف بالمراهقين المبتدئين ؟! واكثر حالات التوتر التي شهدتها عندما اقترب موعد حصة اللغة العربية اذ بدى الفزع واضحا على وجوه الطلبة المغلوبين على امرهم فبالاضافة الى التفكير بتشدد المعلمة وتطرفها فأن المادة بحد ذاتها كافية لأن تحرمك من الشعور بالراحة او الهدوء ،وبعد ان جلس جميع الطلبة بصمت بأنتظار حلول لحظة الصفر دخلت المعلمة دخول الاميرات بل قل دخول زعماء الدول العظمى، مع فارق واحد الا وهو ان هذه المعلمة التي قبلت حديثا في هذه المدرسة بدت مختلفة عما ورد في الاساطير الطلابية فكانت امراة جميلة جدا في نهاية العشرينات من عمرها ،حنطية اللون قوية العود سوادء العينين لم تضع اي زينة او مساحيق ، غطت شعرها الاسود الفاحم بغطاء مخملي ابيض اظهر جمالها العربي بأدق صورة، نظرت الينا بحزم وحنان فجعلتنا نبتسم ابتسامة ارتياح للمرة الاولى في هذا اليوم المضني متناسين ما سمعناه وخفناه منها اذ ان سياسة المديرة آنذاك تلخصت في انتقاء المعلمات وفقا لمعايير تتجاوز علم النفس التربوي الحديث ويبدو ان قبول هذه المعلمة كان مختلفا هذه المرة، وبعد ان عرّفت الينا بنفسها وتعرفت الينا بدأت بتدريسنا اللغة العربية وهو ما أعاد الطلاب الى المربع الاول الممل لكن اظنني انا الوحيد الذي استمتع به او بها فلم اعرف ايهما كان اقرب الى قلبي اهو صوتها الأمومي ام قواعد اللغة المعقدة التي بدأت تذوب في ذهني الصغير كالمخدر الذي يبعث على نشوة العبقرية ، في تلك الساعة احسست احساسا غربيا بان تلك المرأة المعلمة ستؤثر في حياتي كثيرا بل وربما طويلا.

صرت بعدها طالبا مجدا ومجتهدا في درس العربية فقد حفظت طلاسم الصرف والنحو وشرعت احفظ القصائد العصماء المملة واشارك بأسئلتي المتذاكية مبديا اهتمامي وحرصي على قدسية التراث والثقافة التليدة وبذلت كل ما في وسعي كي اتقرب منها بالطرق الممكنة او الغير ممكنة وشيئا فشيئا اصبحت ذلك الطالب المدلل لديها، فهي تشير اليّ في صفنا و بقية الصفوف كأحد الطلبة الاذكياء الذين تعتز بهم وتطلب من البقية ان يحذوا حذوي و ان يستشيروني في بعض امور الدرس ان اشكل عليهم شيء وهو ما اثار سخط البعض منهم واحترام آخرين وان اشادت بطالب آخر فكانت تلك هي الكارثة بالنسبة لي لأحساسي باني لم اعد محببا اليها او اني قصرت في شيء معها ولكني ضمنت لني نفسي موقع الصدارة لديها عندما سمحت لي بأن احمل لها كراريس الامتحانات فكان الامتحان ينتهي لتراني احمل كومة الاوراق بفخر وأعتزاز رغم سخرية زملائي مني واخذت توكل اليّ العديد من النشاطات المدرسية مثل كتابة المقالات والمساهمة في النشرات المدرسية وسوى ذلك.

لم ادرك في ذلك السن انها اول حب في حياتي وأن كل من احببت بعدها كن نسخة منها او اردت ان اتخيلهن كذلك .

انقضى العام الدراسي وحصلت على درجة جيد جدا في العربية فدهش والدي العزيز والمتباهي لأنني حصلت على هذه الدرجة العالية في هذا الدرس بالذات ولكن بقية الدروس ظلت في المؤخرة مع الاسف لكن المهم ان والدي شعر بالفخر لشيء ما اخيرا.

وفي اليوم الاول من العام الدراسي التالي وبعد طول اشتياق ولهفة هرعت مهرولا الى غرفة المدرسات لرؤيتها وفعلا فقد كانت هناك تجلس وسطهن بكل شموخ وابهة ،حاولت ان ادخل اليها فمنعتني العاملة التي تحرس ثكنة المدرسات لكن معلمتي العزيزة رأتني من بعيد وابتسمت لي فقامت من مكانها واقبلت نحوي

- كلا دعيه يدخل انه مثل ابني ( قالت للعاملة المتسلطة هي الاخرى )

- نعم على عيني ( اجابتها العاملة بامتعاض وكانني قد خرقت قوانين السيادة )

فدخلت اليها بسرعة ولهفة وسلمت عليها واخبرتها بشوقي لها

- انه شعور الابن تجاه امه فالمعلمة والمدرسّة مثل الام يا بني ، كيف انت ؟ اني مشتاقة لكم ، الا تزال نشيطا مثل العام الماضي ؟ اني فعلا افخر بكم يا ابنائي.

قالت ذلك وكانها شعرت بانني ربما تجاوزت حدودي معها بعض الشيء فلم تنس ان تذكرني ان الله لم يرزقها بأولاد وأننا الطلبة مثل اولادها ومن يومها اصبحت اكثر تحفظا معي وانا صرت اكثر هوسا بها، فقد بدأت أهندم نفسي استعدادا لها وأطلب اخذ الصور معها وادمت الوقوف انتظارا لها في كل استراحة حتى لاحظ جميع رفاقي ذلك بل حتى انهم اطلقوا النكات الساخرة علي.

مرت الايام وانقضت المرحلة المتوسطة وحان وقت الانتقال الى الصف العاشر كان الشعور بالفراق صعبا جدا زاد منه انها في الحصة الاخيرة ودعتنا وسألت العلي القدير ان يوفقنا وانها تتمنى ان ترانا في احسن المناصب والاعمال كأنها أم مفجوعة بفقد اولادها.

لكني لم ايأس فقد كنت ازور المدرسة في بعض المناسبات فلله الحمد ان مدرستي الجديدة ليست بعيدة عن تلك القديمة لكن زياراتي قلت بمرور السنوات وانقطعت كليا بعد زواجي ( بالمناسبة زوجتي لا تشبهها في شيء ابدا !!!!)

ذهبت الى الجامعة ومرت السنون ونسيت قواعد اللغة العربية وعشقت بعضهن وعشقنني وكل فتاة عرفت كانت تسألني سؤالا بريئا ومزعجا في آن معا ، من هي اول حب في حياتك ؟ بالطبع كانت تتوقع ان اخبرها بأنها هي حبي الاول بل والاخير ربما، فهو نفس الجواب الذي ستجيبني به عندما اواجهها بذات السؤال لكنني لم اتورع عن القول بأن معلمة اللغة العربية هي اول حب لي بل ان المرأة التي اود الارتباط بها لا بد ان تكون مثلها ولم اتوقف عن الثرثرة حول تلك الانسانة المحببة لي وهو ما ازعجهن من دون ان ادري وبعد مدة من العلاقات شبه البريئة والنضوج العاطفي تعرفت الى طالبة في قسم الهندسة الذي لا يبعد عن قسم الاداب كثيرا وتزوجت بها بعد مدة قصيرة من تخرجي – لا اعرف لماذا لم تسألني السؤال المعهود !!!- لكنني لم اتحمل فأخبرتها بحبي الاول فلم تجبني الا بأبتسامة باردة جدا ، ورزقت بأبني الاول والاخير (علي ) الذي وجهت اليه كل اهتمامي وجهدي فعلمته ان يكون مستقلا ناضجا راشدا يختار ما يريد لكنني كنت دكتاتورا في شيء واحد الا وهو اختيار المدرسة التي يدرس فيها.

وعندما انهى صفه السادس لم اتردد في ارساله الى مدرسة ليست قريبة الى محل سكناي لا لشيء الا لأن معلمة العربية التي شغلت ذهني قد اصبحت مديرة لها، لم تناقشني زوجتي كثيرا في هذا الموضوع وعندما اخبرتها بقراري ابتسمت نفس تلك الابتسامة الباردة القديمة.

مرت الايام والشهور وانا سعيد بأبني علي الذي يمضى على خطى ابيه واكثر سعادة بترددي على المدرسة لأشاهد اروع سيدة ومعلمة ومديرة في العالم .

لم تتوقف الفرحة الا في ذلك اليوم جاء ابني الى البيت حزينا مهموما واقبل اليّ باكيا ليخبرني بأن مديرة مدرسته التي يعلم مدى حبي لها قد ماتت قبل وصول الاسعاف اثر نوبة قلبية ألمت بها في قاعة الدرس.

لم افعل شيئا سوى الجلوس لبرهة لاستعيد شريط ايام جميلة ارتبطت مع هذه المرأة وبعد برهة شعرت برغبة بالبكاء فرأيت ابني يبكي معي وزوجتي تراقبنا نحن الاثنين من احدى الزوايا ربما هي اللحظة الوحيدة التي شعرت بالغيرة عندما رأت زوجها وابنها يبكيان بهذه الحرقة من اجل امرأة احباها سوية

WebCrawler Search