الأربعاء، 2 يناير 2008

هناك حكمة تقول ان حياة الانسان تبدأ بعد الاربعين

عبارة قالتها لي البائعة الاسيوية عندما شاهدتني اتفحص بعض الملابس الشبابية الجميلة في احدى المحلات الراقية في دبي ولما اقتربت مني مبتسمة وهي تقول كيف اخدمك سيدي ؟ شعرت بأني في المكان الخطأ فما كان مني الا ان اجبتها بالنفي قائلا (كلا شكرا انا اتفحص الملابس فقط فأن عمري لا يساعدني على لبس الملابس الشبابية جدا للأسف !!! ) ، فما كان منها الا ان ابتسمت مرة اخرى لتقول ( كلا يا سيدي لا اظنك محقا اذ إن حياة الرجل تبدأ بعد الاربعين ويمكنك ان تلبس ما تحب وتعيش كما تحب )، ولم تنس ان تبتسم ابتسامتها الخفيفة الهادئة للمرة الثالثة ، لا اعرف لماذا تذكرت حينها بائع السمك في بلادي عندما تتكلم معه حول اسماكه ونوعيتها وصلاحيتها فيجيبك قائلا بتعالي ووقاحة و رائحة السمك الخانقة تفوح منه ( ان هذا السمك ليس طعامك ) - اي انك لست ذواقا لتعرف قيمة السمك او نوعيته - وفعلا ساعدتني لايجاد بعض الملابس الجيدة التي تناسبني مع اضفاء الروح الشبابية عليها ( علما اني لم ابلغ الاربعين لكن اثر الايام كان كافيا ) وبعد ان اشتريت بعضها خرجت من المحل سعيدا بما لدي واكثر ما ابهجني ان هنالك من ذكرني بشيء لعلني سمعته قبلا لكن ليس بهذا اللطف ، ربما كانت تلك البائعة تمارس عملها في الترويج لبضاعتها او ربما هي لطيفة بالفعل او ربما هي الحقيقة ايضا ، لم يهمني حينها اي من هذه الامور فالمهم ان يسعيد بما اشتريت وبما سمعت ، احيانا تكون الاحداث والوقائع التي نواجهها في حياتنا ليست بالامر المهم بقدر اهمية نظرتنا الى هذه الاحداث والوقائع فلماذا لا يستمتع المسنون بما لديهم من تجارب ككنز لديهم بأعتبارها مكسبا حصلوا عليه بدلا من التحسر والأسى فأن الانسان في شبابه يسعى الى ما لم يمتلك بعد، ومثال آخر على النظرة الايجابية او السلبية للاحداث عندما يصطدم شخصان في الطريق وتسقط اغراضهما فيعتذر احدهما من الآخر ويساعد بعضهما البعض وقد يصبحان صديقين في المستقبل ، وعكس النتيجة عندما يصطدم شخصان آخران فيتبادلان الشتائم والاتهامات لينتهي بهما الامر في مخفر الشرطة فهي حالة واحدة ونتيجتان مختلفتان ، اتذكر طفولتي نهاية السبعينات الجميلة عندما اصطدمت سيارة والدي بسيارة اخرى في طريق العودة من مصايف الشمال الخلابة فانتهت المسألة بحل بسيط وودي الا وهو ان شيئا لم يحصل ويمكن اصلاح الضرر بسهولة وتحركنا جميعا من دون ان يؤثر ذلك الموقف على اجازتنا الصيفية الممتعة !!!، تذكرت ابناء شعبي سابقا ولطفهم وهدوئهم وتذكرت ايضا المسار التدريجي الذي هبطنا به الى حالة من التوتر والتشدد والتناحر والتسابق الغير منطقي نحو التسلط في جميع مجالات الحياة ناهيك عن الكوارث الاخرى بسبب زمرة من المغامرين والاشقياء الذين سيطروا على البلد في ليل اسود منذ ثلاثين عاما فحولوا اجمل واغنى واعرق بلد الى ما هو عليه الان ، خلاصة الامر ان الكثير من الاحداث اليومية قد لا تحمل معنى محددا بذاتها بقدر ما تحوي امكانية إثارة ردة فعل سلبية او ايجابية في الانسان الذي بدوره يتفاعل مع الامر من منظوره الشخصي ، انني عندما افكر بهذه الطريقة لا اريد ان اجرد الاشياء من معانيها بل ما اريد قوله اننا يجب ان نستوعب المعاني ونستخلص العبر ونظهر طاقتنا الايجابية عند التعامل مع الطواريء او حتى الاحداث العادية العابرة وإلا فكيف نفسر قدرة الكثيرين الذين حولوا مصائبهم و معاناتهم الى ابداعات خلاقة ؟ بل ان منهم من اعتبر ان ما مر به كان ضروريا ليصل الى ما وصل اليه.
يبدو ان هنالك ثقافات ذات طاقة ايجابية واخرى على العكس تماما فبعضها يمجد مفاهيم التسامح والتواضع والتعاون واللطف فيكون تعاملهم مرحا وبالنتيجة تكون حياتهم العملية اكثر ابداعا لان لديهم طاقة بناءة تصلح العطب وتداوي الضرر، ولا ينسى الاطباء عند دراستهم لظاهر طول متوسط العمر لدى بعض الشعوب التطرق الى حالة النظرة الايجابية للحياة وأثرها على حياة الانسان وذلك من ضمن قائمة تشمل التغذية والتمارين الرياضية والعلاج وفي الجانب الاخر نلاحظ ثقافات ذات طاقة سلبية تسعى الى فرض وجودها بأفراطها بمبادي القوة والتسيد والتسلط والتعالي او بمعنى آخـر ( أتغدى به قبل ان يتعشى بي ) او بمعنى آخر ( انا أولا ولا شيء بعدي وليذهب الجميع الى الجحيم )
وهي عموما مفاهيم ورثناها او خلقناها وبررناها ومما يححز في النفس أننا تلقفنا وابتلعنا وهضمنا كل شيء من التكنلوجيا الاستهلاكية ولم نتعلم بعد الاسس الحقيقية التي سبقت التكنلوجيا وسبقت التقدم فالحضارة والتقدم هما عبارة عن مباديء واخلاقيات اكثر من كونهما انتاج صناعي مهما اختلفنا مع تلك المباديء والاخلاقيات ، وفي مرة عندما حدثنا احد الاشخاص عن انبهاره بما شاهده في الصين ويقينه بأن الصين ستغزو العالم في المستقبل القريب وأن شمس العالم المتحضر التقليدي ستغيب خلال مدة وجيزة ، أجبابه احد الحاضرين جوابا رائعا عندما قال ان ما يحدث في الصين هو عبارة عن استنساخ وتقليد لما حصل في العالم المتحضر التقليدي الذي نعرف وإن الحضارة الحية هي التي تنتج ابداعا وفكرا وفلسفة وفنا ومؤسسات اجتماعية وتكرس حقوق الانسان بالاستناد على التخطيط الدقيق والتنظيم المدروس وان الصين رغم ما تقوم به فهي تعمل على سرقة الابتكارات واعادة تصنيعها ولحد ألان لم نسمع عن تطور اجتماعي او ثقافي يذكر يترافق مع تلك الفورة فالمداخيل بصورة عامة لا تزال منخفضة ولا يتمتع الفرد بأي امتيازات او ضمانات اجتماعية – في آخر قلاع الشيوعية العمالية والفلاحية - وقد هجر الكثيرون مزارعهم للالتحاق بالمصانع التي أنشاها المستثمرون هربا من قوانين العمل والضرائب في بلادهم ناهيك عن سيطرة الدولة على حرية الفكر والاعلام واشرافها المتزمت على الفكر والادب والفن والانجاب وتفشي الفساد والرشوة وازدهار طبقة من السياسيين النفعيين الرأسماليين بلا وازع او رادع
وأن بدأت المقالة بالكلام الرائع للبائعة البسيطة فاني لا انسى كلمة ارسطو عندما قال ( قد يكون الشاب عالما لكنه لن يكون حكيما لأن الحكمة تتطلب ممارسة وتعوّد ) واعتقد ان ما مر به شعبي مع شعوب المنطقة منذ القدم بحلوه ومره اكبر فرصة لنكتسب الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا.

ازهر مهدي
Azhermahdi@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

WebCrawler Search